فصل: تفسير الآيات (1- 6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.سورة الشعراء:

.تفسير الآيات (1- 6):

{طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)}
يقول الحق جل جلاله: {طسم} أي: يا طاهر، يا سيد، يا محمد، أو: أيها الطاهر السيد المجيد. وقال الواحدي: أقسم تعالى بطَوله وسنائه وملكه، والمقسم عليه: {إن نشأ نُنزل...} إلخ. {تلك آيات الكتاب المبين} أي: ما نسرده عليك في هذه السورة وغيرها من الآيات، هي آيات الكتاب، أي: القرآن المبين أي: الظاهر إعجازه وأنه من عند الله على أنه من أبان بمعنى بان أو: المبين للأحكام الشرعية والحِكَم الربانية، أو: الفاصل بين الحق والباطل. وما في الإشارة من معنى البُعد؛ للتنبيه على بُعد منزلة المشار إليه في الفخامة ورفعة القدر.
ثم شرع في تسليته بقوله: {لعلك باخعٌ نفسَكَ} أي: قاتل نفسك. قال سَهْلٌ: تهلك نفسك باتباع المراد في هدايتهم وإيمانهم، وقد سَبق مني الحُكم بإيمان المؤمنين وكفر الكافرين، فلا تبديل ولا تغيير. ولعل: للإشفاق، أي: أشفق على نفسك أن تقتلها؛ حسرة على مافاتك من إسلام قومك {أَلاَّ يكونوا مؤمنين} أي: لعدم إيمانهم بذلك الكتاب المبين، {إن نشأ نُنزِّل عليهم من السماء آيةً}، هو تعليل لما قبله من النهي عن التحسر؛ ببيان أن إيمانهم ليس مما تعلقت به المشيئة، فلا وجه للطمع فيه والتألم من فواته، والمفعول محذوف، أي: إن نشأ إيمانهم ننزل عليهم من السماء آية ملجئة لهم إلى الإيمان، قاهرة لهم عليه، {فظلَّتْ أعناقُهم لها خاضعين}؛ منقادين. والأصل: فظلوا لها خاضعين، فأقمحت الأعناق؛ لزيادة التقرير ببيان موضع الخضوع، وترك الخبر على حاله من جمع العقلاء. وقيل: لمَّا وصفت الأعناق بصفة العقلاء أجريت مجراهم، كقوله تعالى: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]. وقيل المراد بالأعناق: الرؤساء ومقدمو الجماعة، وقيل: الجماعة، من قولهم: جاءنا عنق من الناس، أي: فوج. وقرئ: خاضعة، على الأصل.
{وما يأتيهم من ذِكْرٍ من الرحمنِ مُحْدَثٍ إلا كانوا عنه معرضين}، هذا بيان لشدة شكيمتهم وعدم ارعوائهم عما كانوا عليه من الكفر والتكذيب؛ لصرف رسوله صلى الله عليه وسلم عن الحرص على إسلامهم، وقطع رجائه فيهم على الجملة، قال القشيري: أي: ما نُجَدِّد لهم شَرْعاً، أو نرسل رسولاً إلا أعرضوا عما دلّ برهانه عليه، وقابلوه بالتكذيب، فلو أنهم أنعموا النظرَ في آياتهم، لا تضح لهم صدقهم، ولكن المقسوم من الخذلان في سابق الحُكْمِ يمنعهم من الإيمان والتصديق. اهـ.
والتعرض لعنوان الرحمة؛ لتغليظ شناعتهم، وتهويل جنايتهم؛ فإن الإعراض عما يأتيهم من جنابه عز وجل على الإطلاق شنيع قبيح، وعما يأتيهم بموجب الرحمة، لمحض منفعتهم، أشنع وأقبح، أي: ما يأتيهم من موعظة من المواعظ القرآنية أو من طائفة نازلة من القرآن تُذكّرهم أكمل تذكير وتنبهُهم من الغفلة أتم تنبيه، بمقتضى رحمته الواسعة، إلا جددوا إعراضاً عنه؛ على وجه التكذيب والاستهزاء؛ إصراراً على ما كانوا عليه من الكفر والضلال.
{فقد كذَّبوا} بالذكر الذي يأتيهم تكذيباً مقارناً للاستهزاء، {فسيأتيهم} أي: فسيعلمون {أنباءُ} أي: أخبار {وما كانوا به يستهزئون}، وأنباؤه: ما يحيق بهم من العقوبات العاجلة والآجلة، عبّر عنها بالأنباء؛ إما لكونها مما أنبأ بها القرآن الكريم، وإما لأنهم، بمشاهدتها، يقفون على حقيقة القرآن الكريم، كما يقفون على الأحوال الخافية عنهم، باستماع الأنباء. وفيه تهويل؛ لأن الأنباء لا تُطلق إلا على خبر خطير له وقع كبير، أي: فسيأتيهم لا محالة مِصداق ما كانوا يستهزئون به، إما في الدنيا، كيوم بدر وغيره من مواطن الحتُوف، أو يوم القيامة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: طسم، الطاء تشير إلى طهارة سره- عليه الصلاة والسلام-، والسين تُشير إلى سيادة قدره، والميم إلى مَجَادة أمره، وهذا بداية الشرف ونهايته. أو: الطاء تشير إلى التنزيه للقلب، من حيث هو، والتطهير والسين تشير إلى تحليته بالسر الكبير، والميم تشير إلى تصرفه في الملك والملكوت بإذن العلي الكبير. وهذه بداية السير ونهايته، فيكون حينئذٍ عارفاً بالله، خليفة رسول الله في العودة إلى الله، فإنْ حرص على هداية الخلق فيقال له: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين}، فلو شاء ربك لهدى الناس جميعاً، ولا يزالون مختلفين، {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين}. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (7- 9):

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)}
قلت: الهمزة: للإنكار التوبيخي، والواو: للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أي: أَفعلوا ما فعلوا من الإعراض والتكذيب، ولم ينظروا إلى عجائب الأرض.. إلخ. و{كم}: خبرية منصوبة بما بعدها على المفعولية.
يقول الحق جل جلاله: {أوَ لَم يروا} أي: ينظروا {إلى} عجائب {الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم}؛ أي: من كل صنف محمود كثير المنفعة، يأكل منه الناس والأنعام. وتخصيص النبات بالذكر، دون ما عداه من الأصناف؛ لاختصاصه بالدلالة على القدرة والنعمة معاً. ويحتمل أن يراد به جميع أصناف النبات؛ نافعها وضارها، ويكون وصف الكل بالكرم؛ للتنبيه على أنه تعالى ما أنبت شيئاً إلا وفيه فائدة، إما وحده، أو بانضمامه إلى غيره، كما نطق به قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا في الأرض جَمِيعاً} [البقرة: 29] فإن الحكيم لا يكاد يفعل فعلاً إلا وفيه حكمة بالغة، وإن غفل عنه الغافلون، ولم يتوصل إلى معرفة كنهه العاقلون. وفائدة الجمع بين كلمتي الكثرة والإحاطة، وهما {كم} و{كلّ}؛ أنّ كلمة {كلّ} تدل على الإحاطة بأزواج النبات؛ على سبيل التفصيل، و{كم} تدل على أنَّ هذا المحاط متكاثر، مفرط الكثرة، وبه نبّه على كمال قدرته.
{إنَّ في ذلك} الإنبات، أو: كل صنف من تلك الأصناف {لآيةً} عظيمة دالة على كمال قدرته، وسعة علمه وحكمته، ونهاية رحمته الموجبة للإيمان، الوازعة عن الكفر والطغيان. {وما كان أكثرُهُم} أي: أكثر قومه- عليه الصلاة والسلام- {مؤمنين} في علم الله تعالى وقضائه، حيث عَلِمَ أنهم سيصرفون عنه، ولا يتدبرون في هذه الآيات العظام. وقال سيبويه: {كان}: صلة، والمعنى: وما أكثرهم مؤمنين، وهو الأنسب بمقام عتوهم وغلوهم في المكابرة والعناد، مع تعاضد موجبات الإيمان من جهته تعالى. وأما نسبة كفرهم إلى علمه تعالى وقضائه فربما يتوهم أنهم معذورون فيه بحسب الظاهر؛ لأن التفريق بين القدرة والحكمة، اللتين هما محل التحقيق والتشريع، قد خفي على مهرة العلماء، فضلاً عن غيرهم. فالحكم بزيادة {كان} أقرب؛ كأنه قيل: إن في ذلك لآية باهرة موجبة للإيمان، وما أكثرهم مؤمنين مع ذلك؛ لغاية عتوهم وعنادهم. ونسبة عدم الإيمان إلى أكثرهم؛ لأن منهم من سبق له أنه يؤمن.
{وإِنَّ ربك لهو العزيزُ}؛ الغالب على كل ما يريد من الأمور، التي من جملتها: الانتقام من هؤلاء، {الرحيمُ}؛ المبالغ في الرحمة، ولذلك يمهلهم، ولا يؤاخذهم بغتة بما اجترأوا عليه من العظائم الموجبة لفنون العقوبات. وفي التعرض لوصف الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره- عليه الصلاة والسلام-، من تشريفه والعِدَة الحقيّة بالانتقام من الكفرة مالا يخفى. قاله أبو السعود.
الإشارة: أوَ لم يروا إلى أرض النفوس الطيبة، كم أنبتنا فيها من كل صنف من أصناف العلوم الغريبة، والحِكَم العجيبة، بعد أن كانت ميتة بالجهل والغفلة، إنَّ في ذلك لآية ظاهرة على وجود الخصوصية فيها، وعلى كمال من عالجها حتى ظهرت عليها. أو: أوَ لم يروا إلى أرض العبودية، كم أنبتنا فيها من أصناف الآداب المرضية، والمقامات اليقينية، والمكاشفات الوهبية، إن في ذلك لآية، وما كان أكثرهم مؤمنين بهذه الخصوصية عند أربابها، وإن ربك لهو العزيز الرحيم، يُعز من يشاء، ويرحم بها من يشاء. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (10- 17):

{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)}
يقول الحق جل جلاله: {و} اذكر يا محمد {إذ نادى ربُّك موسى} أي: وقت ندائه إياه، وذَكِّر قومك بما جرى على قوم فرعون بسبب تكذيبهم؛ زجراً لهم، وتحذيراً من أن يحيق بهم مثل ما حاق بإخوانهم المكذبين. أو: واذكر حاله لتتسلى به وبما عالج مع قومه حيث أرسله وقال له: {أن ائْتِ القوم الظالمين} أو: بأن ائْتِ القومَ الظالمين بالكفر والمعاصي، أو: باستعباد بني إسرائيل وذبح أبنائهم. {قومَ فرعون}: عطف بيان، تسجل عليهم بالظلم، ثم فسرهم، وقل لهم: {ألاَ يتقون} الله، ويتركون ما هم عليه من العتو والطغيان. وقرئ بتاء الخطاب؛ على طريقة الالتفات، المنبئ عن زيادة الغضب عليهم، كأنَّ ظلمهم أدى إلى مشافهتهم بذلك. وليس هذا نفس ما ناداه به، بل ما في سورة طه من قوله: {إِنّي أَنَاْ رَبُّكَ...} [طه: 12] إلخ، واختصره هنا لمقتضى المقام.
{قال} موسى عليه السلام؛ متضرعاً إلى الله عز وجل: {ربِّ إني أخافُ أن يكذِّبون} من أول الأمر، {ويضيق صدري} بتكذيبهم إياي، {ولا ينطلقُ لساني}؛ بأن تغلبني الحمية على ما أرى من المحال، وأسمع من الجدال، أو: تغلبني عقدة لساني، {فأرسلْ إلى هارون} أخي، أي: أرسل جبرلَ إليه، ليكون نبياً معي، أَتَقَوَّى به على تبليغ الرسالة. وكان هارون بمصر حين بُعث موسى بجبل الطور. وليس هذا من التعلل والتوقف في الأمر، وإنما هو استدعاء لما يُعينه على الامتثال، وتمهيد عذره.
ثم قال: {ولهم عليّ ذنبٌ} أي: تبعة ذنب بقتل القبطيّ، فحذف المضاف، أو: سمّي تبعة الذنب ذنباً، كما يُسَمَّى جزاء السيئة سيئة. وتسميته ذنباً بحسب زعمهم. {فأخافُ أن يقتلونِ} به؛ قصاصاً. وليس هذا تعللا أيضاً، بل استدفاع للبلية المتوقعة، وخوف من أن يقتل قبل أداء الرسالة، ولذلك وعده بالكلاءة، والدفع عنه بكلمة الردع، وجمع له الاستجابتين معاً بقوله: {قال كلا فاذهبا}؛ لأنه استدفعه بلاءهم، فوعده بالدفع بردعه عن الخوف، والتمس منه رسالة أخيه، فأجابه بقوله: {اذهبا}، أي: جعلتُه رسولاً معك {فاذهبا بآياتنا} أي: مع آياتنا، وهو اليد والعصا وغير ذلك، فقوله: {فاذهبا}: عطف على مضمر، يُنبئ عنه الردع، كأنه قيل: ارتدع يا موسى عما تظن، فاذهب أنت ومن استدعيته مصحوباً بآياتنا، فإنها تدفع ما تخافه.
{إنّما معكم مستمعون} أي: سامعون ما يقال لك، وما يجري بينكما وبينه، فنظهركما عليه. شبَّه حاله تعالى بحال ذي شوكة قد حضر مجادلة، فسمع ما يجري بينهم، فيمد أولياءه وينصرهم على أعدائهم؛ مبالغة في الوعد بالإعانة، فاستعير الاستماع، الذي هو الإصغاء للسمع، الذي هو العلم بالحروف والأصوات، وهو تعليل؛ للردع عن الخوف، ومزيد تسلية لهما، بضمان كمال الحفظ والنصر، كقوله تعالى: {إِنَّنِى مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى} [طه: 46].
{فَأْتِيَا فرعونَ فقولا إِنا رسولُ ربِّ العالمين}، ليس هذا مجرد تأكيد للأمر بالذهاب؛ لأن معنى هذا: الوصولُ إلى المرسل إليه، والذهاب: مطلق التوجه، ولم يُثَنَّ الرسول هنا كما ثناه في سورة طه؛ لأن الرسول يكون بمعنى المرسل وبمعنى الرسالة، فيكون مصدراً، فَجُعِلَ ثَمَّةَ بمعنى المُرْسَل فثنى، وجعل هنا بمعنى الرسالة، فسوّى في الوصف به الواحد والتثنية والجمع، كما تقول: رجل عدل، ورجلان عدل، ورجال عدل؛ لاتحادهما في شريعة واحدة، كأنهما رسول واحد. قلت: والنكتة في إفراد هذا وتثنية الآخر؛ أن الخطاب في سورة طه توجه أول القصة إليهما معاً بقوله: {اذهب أنت وأخوك} فجرى في آخر القصة على ما افتتحت به، وهنا توجه الخطاب في أولها إلى موسى وحده، بقوله: {وإِذا نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين}، فجرى على ما افتتح به القصة من الإفراد. والله تعالى أعلم.
{أنْ أرسل معنا بني إسرائيل}، {أن}: مفسرة؛ لتضمن الإرسال المفهوم من الرسول معنى القول، أي: خَلِّ بني إسرائيل تذهب معنا إلى الشام، وكان مسكنهم بفلسطين منه، قبل انتقالهم مع يعقوب عليه السلام إلى مصر، في زمن يوسف عليه السلام. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من كان أهلاً للوعظ والتذكير لا ينبغي أن يتأخر عنه خوف التكذيب ولا خوف الإذاية، فإن الله معه بالحفظ والرعاية. نعم؛ إن طلب المُعِينَ فلا بأس، فإن أُبهة الجماعة، في حال الإقبال على من يُعظمهم، أقوى في الإدخال الهيبة والروع في قلوبهم، ونور الجماعة أقوى من نور الواحد. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (18- 29):

{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)}
يقول الحق جل جلاله: لما أتى موسى وهارونُ فرعونَ وبلَّغا الرسالة، {قال} له: {ألم نُربِّك...} إلخ، رُوي أنهما أتيا بابه فلم يُؤذن لهما سنة، حتى قال البواب: إن هنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين، فقال: ائذن له، لعلنا نضحك منه، فأَذِن، فدخل، فأدى الرسالة، فعرفه فرعونُ، فقال له: {ألم نُربِّك فينا}؛ في حِجْرنا ومنازلنا، {وليداً} أي طفلاً. عبّر عنه بذلك؛ لقُرب عهده بالولادة. وهذه من فرعون معارضة لقول موسى عليه السلام: {إنا رسول رب العالمين}، بنسبته تربيته إليه وليداً. ولذلك تجاهل بقوله: {وما ربُّ العالمين}، وصرح بالجهل بعد ذلك بقوله: {لئن اتخذت إلهاً غيري...} إلخ، {ولبثتَ فينا من عُمُرِكَ سنين} قيل: لبث فيهم ثلاثين سنة، ثم خرج إلى مدين، وأقام به عشر سنين، ثم عاد يدعوهم إلى الله- عز وجل- ثلاثين سنة، ثم بقي بعد الغرق خمسين، وقيل: قتل القبطي وهو ابن ثنتي عشرة سنة، وفرّ منهم على إثر ذلك. والله أعلم.
ثم قال له: {وفعلتَ فَعْلَتك التي فعلتَ} يعني: قتل القبطي، بعدما عدد عليه نعمته؛ من تربيته، وتبليغه مبلغ الرجال، وبّخه بما جرى عليه مع خبازه، أي: قتلت صاحبي، {وأنت من الكافرين} بنعمتي، حيث عمدت إلى قتل رجل من خواصي، أو: أنت حينئذٍ ممن تفكر بهم الآن، أي: كنت على ديننا الذي تسميه كفراً، وهذا افتراء منه عليه؛ لأنه معصوم، وكان يعاشرهم بالتقية، وإلا فأين هو عليه السلام من مشاركتهم في الدين.
{قال فعلتُها إذاً} أي: إذ ذاك {وأنا من الضالين} أي: من المخطئين؛ لأنه لم يتعمد قتله، بل أراد تأديبه، أو: الذاهلين عما يؤدي إليه الوكز. أو: من الضالين عن النبوة، ولم يأت عن الله في ذلك شيء، فليس عليَّ توبيخ في تلك الحالة. والفرض أن المقتول كافر، فالقتل للكافر لم يكن فيه شرع، وهذا كله لا ينافي النبوة. وكذلك التربية لا تنافي النبوة.
{ففررتُ منكم} إلى ربي، متوجهاً إلى مدين {لمّا خِفْتُكم} أن تصيبني بمضرة، أو تؤاخذني بما لا أستحقه. {فوهب لي ربي حُكماً} أي: حكمة، أو: نبوة وعلماً، فزال عني الجهل والضلالة، {وجعلني من المرسلين}؛ من جملة رسله، {وتلك نعمة تمُنُّها عليَّ أن عَبدتَّ بني إسرائيل} أي: تلك التربية نعمة تمُن بها عليّ ظاهراً، وهي في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل، وقهرك إياهم، بذبح أبنائهم، فإنه السبب في وقوعي عندك وحصولي في تربيتك، ولو تركتهم لرباني أبواي. فكأن فرعون في الحقيقة امتن على موسى بتعبيد قومه وإخراجه من حجر أبويه. فقال له موسى عليه السلام: أَوَ تلك نعمةٌ تَمُنٌُّها عَلَيَّ؛ استعبادك لهم، ليس ذلك بنعمة، ولا لك فيها عليَّ منة، وتعبيده: تذليلهم واستخدامهم على الدوام.
ووحد الضمير في {تمنّها} و{وعبّدتَّ}، وجمعها في {منكم} و{خفتكم}؛ لأن الفرار والخوف كان منه ومن ملئه المؤتمرين به، وأما الامتنان فمنه وحده.
وحين انقطعت حجة فرعون وروغانه عن ذكر رب العالمين، أخذ يستفهم موسى عن الذي ذكر أنه رسول من عنده؛ مكابرة وتجاهلاً وتعامياً، طلباً للرئاسة، كما قال تعالى: {قال فرعونُ وما ربُّ العالمين}، أي: أيُّ شيء رب العالمين، الذي ادعيت أنك رسوله منكراً لأن يكون للعالمين رب غيره، حسبما يعْربُ عنه قوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعْلَى} [النازعات: 24]، وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38]. أو: فما صفته، أو حقيقته؟ {قال} موسى: هو {ربُّ السمواتِ والأرضِ وما بينهما} أي: ما بين الجنسين، {إن كنتم موقنين} أي: إن كنتم موقنين بالأشياء، محققين لها، علمتم ذلك، أو: إن كنتم موقنين شيئاً من الأشياء، فهذا أولى بالإيقان؛ لظهور دليله وإنارة برهانه.
{قال} فرعونُ، عند سماع جوابه عليه السلام، خوفاً من تأثيره في قلوبهم، {لِمن حولَه} من أشراف قومه، وكانوا خمسمائة مسورة بالأسورة: {أَلا تستمعون}، أنا أسأله عن الماهية، وهو يجيبني بالخاصية. ولما كانت ما هي الربوبية لا تُدرك ولا تنال حقيقتها، أجابه بما يمكن إدراكه من خواص الماهية.
ثم {قال} عليه السلام: {ربُّكم وربُّ آبائكم الأولين} أي: هو خالقكم وخالق آبائكم الأولين، أي: وفرعون من جملة المخلوقين فلا يصلح للربوبية، وإنما قال: {ورب آبائكم}؛ لأن فرعون كان يدعي الربوبية على أهل عصره دون من تقدمهم.
{قال} فرعونُ: {إنّ رَسُولَكُمْ الذي أُرْسِلَ إِليكُمْ لمجنون}؛ حيث يزعم أن في الوجود ألهاً غيري، أو: حيث لا يطابق جوابه سؤالي؛ لأني أسأله عن الحقيقة وهو يجيبني بالخاصية، {قال} موسى عليه السلام: {ربُّ المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون} فتستدلون بما أقول حتى تعرفوا ربكم. وهذا غاية الإرشاد، حيث عمم أولاً بخلق السموات والأرض وما بينهما، ثم خصص من العام أنفسهم وآباءهم؛ لأنّ أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه، ومن ولد منه، وما شاهد من أحواله، من وقت ميلاده إلى وفاته، ثم خصّص المشرق والمغرب؛ لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبهما في الآخر، على تقدير مستقيم وحساب مستوٍ، من أقوى الدلائل على وحدانية الربوبية، ووجوب وجودها. أو: تقول: لما سأله عن ماهية الربوبية؛ جهلاً؛ فأجابه، بالخاصية، {قال ألا تستمعون}؟ فعاد موسى إلى مثل قوله، فجنّنه فرعون، زاعماً أنه حائد عن الجواب، فعاد ثالثاً مبيناً أن الواجب الوجود، الفردَ الصمد، لا يدرك بالكُنْهِ، إنما يعرف بالصفات، وما عرفه بالذات إلا خواص الخواص، فالسؤال عن الذات من أمثاله جهل وحمق. ولذلك قال: {إن كنتم تعقلون}، أي: إن كان لكم عقل علمتم أنه لا يمكن أن تعرفوه إلا بهذا الطريق.
قال ابن جزيّ: إن قيل: كيف قال أولاُ: {إن كنتم موقنين}، ثم قال آخراً: {إن كنتم تعقلون}؟ فالجواب: أنه لاَيَنَ أولاً؛ طمعاً في إيمانهم، فلما رأى منهم العناد والمغالطة وبخهم بقوله: {إن كنتم تعقلون}، وجعل ذلك في مقابلة قول فرعون: {إن رسولكم الذي أُرسل إليكم لمجنون}. اهـ.
ولما تجبر فرعون وبهت {قال لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلهاً غيري لأَجعلنَك من المسجونين}، أي: لأجعلنك واحداً ممن عرفت حالهم في سجوني، وكان من عادته أن يأخذ من يرى سجنه، فيطرحه في هوّة ذاهبة في الأرض، بعيدة العمق، فرداً، لا ينظر فيها ولا يسمع، وكان ذلك أشدّ من القتل. ولو قال: لأسجننك، لم يؤد هذا المعنى، وإن كان أخصر. قاله النسفي.
الإشارة: التربية لها حق يراعي ويجب شكرها، ولا فرق بين تربية البشرية والروحانية. قال القشيري: لم يجحد موسى حقَّ التربية والإحسانَ إليه في الظاهر، ولكن بَيَّنَ أنه إذا أمر الله بشيءٍ وَجَبَ اتباعُ أمره، وإذا كانت تربية المخلوقين تُوجب حقاً، فتربية الله أولى بأن يعَظِّمَ العبدُ قَدْرَها. اهـ. فكل من أحسن إلى بشريتك بشيء وجب عليه شكره؛ بالإحسان إليه، ولو بالدعاء، وكل من أحسن إلى روحانيتك بالعلم أو بالمعرفة، وجب عليك خدمته وتعظيمه، وإنكار ذلك بسبب المقت والطرد، والعياذ بالله.
وقول فرعون: {وما رب العالمين}: سؤال عن حقيقة الذات، ومعرفة الكنه متعذرة؛ إذ ليس كمثله شيء، وأقرب ما يجاب به قوله تعالى: {هُوَ الأول والآخر والظاهر والباطن} [الحديد: 3] فهذه الأسماء الأربعة أحاطت بالذات في الجملة، ولم تترك منها شيئاً، والإحاطة بالكنه متعذرة، ولو وقعت الإحاطة لم يبق للعارفين تَرَق، مع أن ترقيهم في كشوفات الذات لا ينقطع أبداً، في هذه الدار الفانية، وفي تلك الدار الباقية. وبالله التوفيق.